سكبت ظاهرة العولمة الكثير من الحبر في الكتابات
العربية المعاصرة, وأوسعها المفكرون العرب دراسة وشرحاً ونقداً. والعولمة مصطلح جديد
في اللغة العربية, جاء ترجمة للمصطلح الإنجليزي (Globalization). وعلى الرغم من أن كتاباً مثل صبري عبد الله وخالد
الحروب استخدموا ألفاظاً من مثل "كوكبة" و"تعولم"، فإن لفظ عولمة
أصبح الأكثر انتشاراً وشيوعاً. واستعمال صبري عبد الله مرتبط بفهمه للمسألة من حيث
اشتراط مشاركة سكان المعمورة كافة في هذه الظاهرة.
العولمة والهوية الثقافية
فرض (العولمة) نفسها على الحياة المعاصرة، على العديد
من المستويات، سياسياً واقتصادياً، فكرياً وعلمياً، ثقافياً وإعلامياً، تربوياً وتعليمياً.
وهي بذلك من الموضوعات التي تحتاج معالجتها إلى قدر كبير من الفهم لعمقها وجوهرها،
والإدراك لبُعدها وغايتها، والوقوف على ما تنطوي عليه السياسات التي تتحكّم فيها وتقودها،
وتتحمّس لها وتدعو إليها، وتمهد للتمكين لها، بشتى الطرق وبمختلف الوسائل.ولقد أجمعت
الدراسات الحديثة لنظام العولمة الذي أصبح اليوم نظاماً يشكّل ظاهرة كونية، إن صحَّ
التعبير، على اعتبار الخطر الأكبر الذي تنطوي عليه العولمة، هو محو الهويات الثقافية
للشعوب، وطمس الخصوصيات الحضارية للأمم.
كل عصرٍ مفاهيمه ومصطلحاته ومفرداته، ولكل مرحلةٍ
من مراحل التاريخ البشري، اهتماماتها وقضاياهاوانشغالاتها.
ومن المفاهيم الجديدة التي تُطرح في هذا العصر،
وتحديداً منذ العقد الأخير من القرن الماضي، مفهومُ (العولمة) الذي اقترن ظهورُه بانتهاء
الحرب الباردة وابتداء ما يُصطلح عليه بـ (النظام العالمي الجديد) الذي هو في حقيقة
أمره وطبيعة أهدافه، نظامٌ صاغته قُوى الهيمنة والسيطرة لإحداث تنميط سياسي واقتصادي
واجتماعي وثقافي وإعلامي واحد وفرضه على المجتمعات الإنسانية كافة، وإلزام الحكومات
بالتقيّد به وتطبيقه.
ولقد خَالَطَ مفهومَ العولمة هذا كثيرٌ من الأوهام
حتى صار من المفاهيم المعقدة، المبهمة أحياناً، المثيرة للجدل دائماً، المرتبطة في
الأذهان بالسياسة التسلّطية التي تمارسها الدولةُ التي انفردت بزعامة العالم في هذه
المرحلة، بعد أن خَلاَ لها المجالُ بانهيار القطب الموازي لها، وسقوط منظومته المذهبية
والسياسية والفكرية والثقافية.
ولذلك فإن للعولمة وجوهاً متعددة؛ فهي عولمة سياسية،
وعولمة اقتصادية، وعولمة ثقافية، وعولمة إعلامية، وعولمة علمية وتكنولوجية. والخطير
في الأمر كلِّه، أن لا وجه من هذه الوجوه يستقل بنفسه؛ فعلى سبيل المثال، لا عولمة
ثقافية بدون عولمة سياسية واقتصادية تمهد لها السبيل وتفرضها فرضاً بالترهيب والإجبار
تارة، وبالترغيب والتمويه، تارة أخرى.
ومن هنا، كان لابد أن نفهم (العولمة) باعتبارها
منظومةً من المبادئ السياسية والاقتصادية، ومن المفاهيم الاجتماعية والثقافية، ومن
الأنظمة الإعلامية والمعلوماتية، ومن أنماط السلوك ومناهج الحياة، يُراد بها إكراه
العالم كلِّه على الاندماج فيها، وتبنّيها، والعمل بها، والعيش في إطارها.
وذلك هو العمق الفكريّ والثقافيّ والإيديولوجيّ
للنظام العالمي الجديد.
مجال العولمة الثقافية
:
للعولمة، كما أسلفنا القول، منظومةٌ متكاملةٌ يرتبط
فيها الجانبُ السياسيُّ بالجانب الاِقتصاديّ، والجانبان معاً يَتَكَامَلاَنِ مع الجانب
الاِجتماعي والثقافي، ولا يكاد يستقل جانبٌ بذاته. وعلى هذا الأساس، فإن العولمة الثقافية
هي ظاهرةٌ مدعومةٌ دعماً محكماً وكاملاً، بالنفوذ السياسي والاِقتصادي الذي يمارسه
الطرف الأقوى في الساحة الدولية. وللوقوف على الصورة الواضحة للأجواء التي تمارس العولمة
الثقافية في ظلها نفوذَها على الشعوب والأمم، نسوق فيما يلي، باختصارٍ وتركيز، طائفة
من المعلومات التي تُنشر وتتداولها الصحافة العالمية المتخصصة والمواكبة لثورة المعلوماتية
التي هي الأساس الراسخ للعولمة الثقافية، والتي تشكل القوة الضاربة للنظام العالمي
الجديد.
إن تكنولوجيا المعرفة، هي قوة الدفع للعولمة الثقافية.
وفي ظل النقلة الجديدة والمتطورة جداً لتكنولوجيا المعرفة، يبدو العالم منقسماً إلى
ثلاثة أقسام :
ـ إن 15 بالمائة من سكان العالم يوفّرون تقريباً
كلَّ الاِبتكارات التكنولوجية الحديثة.
ــ إن 50 بالمائة من سكان العالم قادرون على استيعاب
هذه التكنولوجيا استهلاكاً أو إنتاجاً.
ــ إن بقية سكان العالم، 35 بالمائة، يعيشون في حالة
انقطاعٍ وعزلةٍ عن هذه التكنولوجياالمصدر/ مجال العولمة الثقافية