سكبت ظاهرة العولمة الكثير من الحبر في الكتابات العربية المعاصرة, وأوسعها المفكرون العرب دراسة وشرحاً ونقداً. والعولمة مصطلح جديد في اللغة العربية, جاء ترجمة للمصطلح الإنجليزي (Globalization). وعلى الرغم من أن كتاباً مثل صبري عبد الله وخالد الحروب استخدموا ألفاظاً من مثل "كوكبة" و"تعولم"، فإن لفظ عولمة أصبح الأكثر انتشاراً وشيوعاً. واستعمال صبري عبد الله مرتبط بفهمه للمسألة من حيث اشتراط مشاركة سكان المعمورة كافة في هذه الظاهرة.
أن العولمة بمفهومها الأوسع هي "ظاهرة أو حركة
معقدة ذات ابعاد اجتماعية واقتصادية وسياسية وحضارية وثقافية وتكنولوجية، أنتجتها وساهمت
في سرعة بروزها التغيرات العالمية"،4 التي حدثت في العصر الحالي, وكان لها تأثير
عظيم على حياة الأفرد والمجتمعات والدول.
أثر العولمة على
الثقافة العربية (العولمة الثقافية) :
إن الثقافة هي "مجموع جوانب الفضاء التواصلي
البشري؛ أي إدراك البشر لواقعهم والدلالة التي يسندونها له ... بالإضافة إلى أنماط
العلاقات التي يقيمونها في ما بينهم. فيدخل في هذا التحديد كل ما يمس الجوانب العقائدية
والمعرفية والسلوكية، دون تميز أو حصر".
ولذلك، تعتبر فكرة الثقافة إحدى الركائز الرئيسية
لظاهرة العولمة بمعناها الشمولي، إذ تعمل على خلق مكون ثقافي عالمي، وفرضه كنموذج ثقافي،
وتعميم معاييره، وقيمه على العالم أجمع. وبما أن الولايات المتحدة الأمريكية، أصبحت
تقود العالم منفردة، فإن العولمة الثقافية تعني: سيطرة الثقافة الأمريكية على العالم،
وشرعت في العمل على سيادة القيم الأمريكية لتصبح قيماً عالمية تحل محل القيم القومية.
بمعنى آخر، إن العولمة الثقافية الطاغية والمهيمنة
لن تسمح أبداً لأي ثقافة قومية بأن يكون لها دور في صياغة العالم، ما لم تتخلَّ عن
الكثير من منجزاتها ومرجعياتها، وأن تتنازل عن الكثير من منابعها، وهذا سيؤدي حتماً
إلى صراع بين الحضارات، وليس إلى حوار بين الثقافات.
وكان لانتهاء الحرب الباردة، أن أدى لخلق وضع جديد،
ما مهد لظهور أطروحات تعبر عن الفكر الرأسمالي في تعبيراته الأكثر تطرفاً. وتعتبر نظرية
صراع الحضارات لـ"صاموئيل هنتنغتون" من النظريات التي أبرزت دور عولمة الثقافة.
وحسب نظريته، فإن المصدر الرئيسي للصراعات في العالم لم يعد بسبب العوامل الأيديولوجية
أو الاقتصادية، بل بالمعايير الثقافية، فالاختلافات بين البشر ستكون ثقافية، ومصدر
النزاعات سيكون مصدراً ثقافياً، لكن ستبقى الدول والأمم هي أقوى اللاعبين في الشؤون
الدولية، إذ (لن تكون الصراعات المهمة والملحة والخطيرة بين الطبقات الاجتماعية، أو
بين الغني والفقير، أو بين أي جماعات أخرى محددة اقتصادياً، بل ستكون الصراعات بين
شعوب تنتمي إلى كيانات ثقافية مختلفة"
ووجهت انتقادات لاذعة لنظرية هنتنغتون، لأنها أخذت
الطابع الحتمي للصراع بين الحضارات، وتلك النظرة الاستعلائية والنرجسية التي سيطرت
عليها، عندما وضعت الحضارة الغربية فوق الحضارات جميعاً. لذلك، لا يمكن أن تكون غاية
النظرية إلا تبرير سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على سياسة العالم، والتحذير بضرورة
سيطرة الغرب على العالم، والقضاء على الحضارة الإسلامية.
وتصدى الكثير من المفكرين لهذه النظرية العنصرية
من خلال الحديث عن ضرورة الحوار بين الثقافات بدل التصادم والصراع، ومنهم الفيلسوف
الفرنسي روجيه غارودي. وكان المستشرق "برنارد لويس" (كتب مطلع التسعينيات
مقالة مثيرة تنبأ فيها بحتمية الصراع بين الإسلام والغرب، مؤكداً على أنهما نقيضان
لا مجال للحوار بينهما)، ما يعني أن الحضارة الغربية – الولايات المتحدة الأمريكية-
ليس أمامها سوى فرض ثقافتها بالقوة لتغير أنماط حياة الشعوب، وجعل قانون الغاب هو من
يتحكم في العالم.
وإذا عرفنا أن الحضارة الغربية هي التي تملك القوة
بمختلف جوانبها العلمية والاقتصادية والعسكرية، فإن السيطرة دانت لها، وهناك
"محاولات منظمة وشمولية للإحاطة والحصار أو الاستيعاب والهضم، وأخيراً التدمير
والإفناء"، هذا ما يجري اليوم تحت عناوين مثل: العصرنة، الحداثة، العولمة.
إننا كأمة عربية، نعيش أزمة حضارية رهيبة، وهذا
نابع من التحديات الكبرى التي نواجهها، فإما أن ننعزل وننغلق على ذواتنا، وإما يجرفنا
تيار العولمة الجارف، فماذا نحن فاعلون؟ فالذي يحصل اليوم هو "في حقيقته الصارخة
تدمير مختلف تكوينات المجتمعات غير الغربية، وتهميش واسع النطاق لثقافات وخصوصيات هذه
المجتمعات. إنه الغزو الثقافي بعينه".
العلاقة بين العولمة
والهوية الثقافية.
· تسعى العولمة نحو
الوحدة والنمطية، بينما تدافع الهوية عن التنوع والتعدد.
· تهدف العولمة إلى
القضاء على الحدود والخصوصيات المختلفة بينما تسعى الهوية الى الاعتراف بعالم الاختلافات
وترفض الذوبان
· الهوية هي انتقال
من العام إلى الخاص ومن الشامل إلى المحدود بينما تبحث العولمة عن العام والشامل واللامحدود
واللا تجانس .
انها علاقة صراعية تصادمية بين العولمة والهوية
الثقافية.فالعولمة تشبه القناص والهوية تشبه الطريدة .ملاحقة ومطاردة.فهل ستنجو الطريدة
وتحافظ على بقائها ؟؟؟الواقع وانتظارات المستقبل ستجيب.ولكن ماهي فرص نجاة الهوية من
العولمة في ظل سيادة وسائل وأدوات تحاول سحق الهويات والخصوصيات؟؟؟؟؟
وسائل وأدوات انتشار العولمة في المجال الثقافي:
· وسائل الاتصال والإعلام:
تتجلى في القنوات التلفزيونية والفضائية وشبكة الانترنيت والجرائد والصحف والمجلات
والأقراص المدمجة و الهاتف...
· الوسائل الفنية:الموسيقى
والمسرح والسينما والرسوم المتحركة...
· الأدوات اللغوية:
تتمثل في استعمال اللغة الانجليزية والفرنسية في التواصل والإعلام والتربية والتعليم
والعمل والأماكن العمومية والخاصة.فاللغة حاملة للثقافة والحضارة الانجليزية والفرنسية .
جوانب تأثير العولمة على ثقافات المجتمعات الأخرى:
· التأثير اللغوي:
استعمال اللغة الفرنسية والانجليزية في الإدارة والاقتصاد والاتصال وفي المقررات الدراسية
وفي التواصل اليومي بين الفئات الاجتماعية في البيت والشارع ....
· التأثير الخلقي:
يتجلى في انتشار سلوكات العنف والجنس في وسائل الإعلام والسينما والانترنيت بشكل اباحي
يتناقض مع الحشمة والعفة التي لا تزال تتشبث بها المجتمعات المحافظة.
· التأثير القيمي:
تتزايد محاولات نشر قيم واحدة على الصعيد العالمي في الموسيقى والملبس والمأكل- الهامبورغر
والماكدولندز-والعلاقات الأسرية المتجهة نحو طغيان الفردانية ...وطغيان ثقافة الاستهلاك
الرأسمالي الذي يتواصل في تجدده وتنوعه وإغراءاته.
.
ــ العالم الإسلامي في مواجهة العولمة الثقافية :
إذا كان العالم الإسلامي يوجد تحت تأثير ظاهرة العولمة
الثقافية، بالنظر إلى أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والثقافية والعلمية
والإعلامية التي هي دون ما نطمح إليه، فكيف يتسنى له أن يواجه مخاطر هذه العولمة ويقاوم
تأثيراتها ويتغلب على ضغوطها؟.
إن الواقع الذي تعيشه بلدان العالم الإسلامي يوفّر
الفرص المواتية أمام تغلغل التأثيرات السلبية للعولمة الثقافية، لأن مقوّمات المناعة
ضد سلبيات العولمة، ليست بالدرجة الكافية التي تقي الجسمَ الإسلاميَّ من الآفات المهلكة
التي تتسبَّب فيها هذه الظاهرة العالمية المكتسحة للمواقع والمحطّمة للحواجز.
إن الشعوب الضعيفة اقتصادياً والمتخلفة تنمويّاً،
لا تملك أن تقاوم الضغوط الثقافية أو تصمد أمام الإغراءات القوية لتحافظ على نصاعة
هوياتها وطهارة خصوصياتها. ولذلك كان خط الدفاع الأول على جبهة مقاومة آثار العولمة
الثقافية، هو النهوض بالمجتمعات الإسلامية من النواحي كافة، انطلاقاً من الدعم القوي
للتنمية الاِقتصادية والاِجتماعية، في موازاةٍ مع العمل من أجل تقوية الاِستقرار وترسيخ
قواعده على جميع المستويات، وذلك من خلال القيام بالإصلاحات الضرورية في المجالات ذات
الصلة الوثيقة بحياة المواطنين، بحيث ينتقل العالم الإسلامي من مرحلة الضعف والتخلف،
إلى مرحلة القوة والتقدم، في إطار القيم الإسلامية وبروح الأخوة والسماحة والتعاون
على البر والتقوى طبقاً للتوجيه القرآني الرشيد.
وكما أن ظاهرة العولمة الثقافية تتركّب من منظومة
متكاملة من النظم السياسية والاِقتصادية والإعلامية والتكنولوجية، فكذلك هي المواجهةُ
المطلوبة لآثار هذه العولمة، لابد وأن تكون قائمةً على أسس قوية، ومستندة إلى مبادئ
سليمة. ومن هنا تأتي الأهمية القصوى للعمل الإسلامي المشترك، على شتى الأصعدة، وفي
جميع القنوات، من أجل تعزيز التضامن الإسلامي حتى يكون القاعدة المتينة للتعاون بين
المجموعة الإسلامية في كلّ الميادين، وفي سبيل تطوير التنمية الشاملة في العالم الإسلامي،
للرفع من مستوى الحياة بمحاربة الظلم والفقر والجهل والمرض، وبإشاعة الوعي الاِجتماعي
والثقافي الراقي، من خلال الاستثمار العلمي للموارد الاِقتصادية والطبيعية والبشرية
التي تتوافر لدى الشعوب الإسلامية، والتوظيف المخطط والمدروس للإمكانات والقدرات، والاِستغلال
الجيّد للفرص المتاحة وللآفاق المفتوحة أمام العالم الإسلامي لتحقيق نقلة حضارية حقيقية.
في هذه الحالة، يمكن أن نمتلك الشروط الضرورية لتقوية
جهاز المناعة الثقافية ولتعزيز قدرة الإنسان المسلم على الصمود في وجه العولمة الثقافية.
وبدون امتلاك هذه الشروط، يستحيل أن نحمي الهوية الثقافية الحضارية الإسلامية من مخاطر
العولمة الثقافية.
إنَّ تقوية الكيان الإسلامي اقتصادياً وعلمياً وتكنولوجياً
وثقافياً وتربوياً، هي الوسيلة الأجدى والأنفع والأكثر تأثيراً للتغلٌب على الآثار
السلبية للعولمة الثقافية، وللاستفادة أيضاً، من آثارها الإيجابية في الوقت نفسه، من
خلال التكيّف المنضبط مع المناخ الثقافي والإعلامي الذي تشكله تيارات العولمة الثقافية،
والتعامل الواعي مع مستجداتها ومتغيراتها وتأثيراتها. وبدون هذه الوسيلة، فسوف نضيع
في مهبّ رياح العولمة، وتكتسحنا تيّاراتها العاصفة الجارفة
العولمة / المصدر.
0 التعليقات:
إرسال تعليق
شكرا لكم يااصدقائي على المعلومات